تمهيد إشكالي
يُعدّ الحق من المفاهيم الفلسفية المركزية التي ارتبطت بالوجود الإنساني منذ بدايات التفكير في تنظيم الحياة المشتركة داخل المجتمع. غير أن تحديد أساس هذا الحق ظل موضع خلاف فلسفي عميق، لأن مشروعية القوانين والتشريعات تتوقف على مصدر الحق الذي تستند إليه. فهل الحق معطى طبيعي يولد به الإنسان بحكم كونه كائنًا إنسانيًا، أم أنه نتاج وضعي من صنع المجتمع والدولة؟ وبعبارة أخرى، هل يقوم الحق على الطبيعة أم على القانون؟
إشكالات المحور
- على أي أساس يقوم الحق؟
- هل الحق طبيعي أم وضعي؟
- وأيّ الأساسين أقدر على ضمان حقوق الأفراد داخل المجتمع؟
شرح المفاهيم الأساسية
الحق: ما يثبت للفرد من مطالب ومصالح يُفترض احترامها وضمانها، سواء استندت إلى الطبيعة الإنسانية أو إلى القوانين الوضعية.
الحق الطبيعي: حقوق فطرية يولد بها الإنسان بحكم طبيعته الإنسانية، وتُعدّ سابقة على وجود الدولة والقانون، مثل الحق في الحياة والحرية.
الحق الوضعي: حقوق يحددها القانون داخل المجتمع، وتستمد مشروعيتها من التشريعات والمؤسسات القانونية التي تفرضها الدولة.
المواقف الفلسفية
1. توماس هوبز: الحق أساسه القوة
🧠 المنطلق الفكري:
ينطلق هوبز من تصور تشاؤمي للطبيعة البشرية، حيث يرى أن الإنسان أناني وعنيف بطبعه، تحكمه غريزة البقاء وحب السيطرة.
📌 الأطروحة:
يرى هوبز أن الإنسان في حالة الطبيعة يعيش في صراع دائم مع الآخرين، تسود فيه الفوضى والعنف فيما يُعرف بـ«حرب الكل ضد الكل». وفي هذه الحالة لا وجود لحق ثابت أو عدالة حقيقية، لأن كل فرد يملك حق كل شيء بقوة قدرته. ولتفادي هذا الوضع الذي يهدد بقاء الإنسان، يعمد الأفراد إلى التعاقد فيما بينهم والتنازل عن جميع حقوقهم الطبيعية لصالح حاكم واحد يتمتع بسلطة مطلقة. وبذلك يصبح الحق مرتبطًا بالقانون الذي يفرضه الحاكم، وتغدو القوة هي الأساس الحقيقي للحق داخل الدولة.
🧾 خلاصة الموقف:
الحق عند هوبز لا يكون طبيعيًا، بل وضعيًا مفروضًا بالقوة، ولا يتحقق إلا داخل الدولة عبر سلطة قاهرة.
⭐ قيمة الأطروحة:
- تبرز ضرورة الدولة والسلطة السياسية لوضع حد للفوضى الطبيعية.
- تفسر نشأة القانون بوصفه وسيلة لحفظ الأمن والاستقرار.
- تكشف العلاقة الوثيقة بين الحق والقوة في الواقع السياسي.
⚠️ حدود الأطروحة:
- تبرر السلطة المطلقة وتفتح المجال للاستبداد.
- تُلغي الحقوق الطبيعية للأفراد بمجرد قيام الدولة.
- تجعل الحق خاضعًا لإرادة الحاكم بدل ربطه بالعدالة.
📺 اكتشف المزيد عبر قناة Philoramii
محتوى فلسفي مبسط ومنهجي خاص بتلاميذ الباكالوريا، يشرح المفاهيم ويقارن بين المواقف الفلسفية.
الاشتراك في القناة2. جان جاك روسو: الحق أساسه التعاقد
🧠 المنطلق الفكري:
ينطلق روسو من تصور متفائل للطبيعة البشرية، يرى فيه أن الإنسان كان حرًا ومسالمًا في حالة الطبيعة.
📌 الأطروحة:
يؤكد روسو أن الإنسان في حالته الطبيعية كان يتمتع بالحرية والمساواة، غير أن ظهور الملكية الخاصة وتعارض المصالح أدى إلى نشوء الصراع. ولمواجهة هذه الوضعية، لجأ الإنسان إلى إبرام عقد اجتماعي يؤسس لمجتمع سياسي جديد. غير أن هذا العقد لا يقوم على التنازل لشخص معين كما عند هوبز، بل على التنازل للإرادة العامة التي تمثل مجموع المواطنين. وهكذا يصبح الحق ناتجًا عن التعاقد، وتستمد القوانين مشروعيتها من كونها تعبيرًا عن الإرادة العامة، بما يضمن الحرية والمساواة لجميع الأفراد.
🧾 خلاصة الموقف:
الحق عند روسو لا هو طبيعي خالص ولا قهري، بل وضعي تعاقدي يستمد شرعيته من الإرادة العامة.
⭐ قيمة الأطروحة:
- تربط الحق بالإرادة العامة والمشاركة الجماعية.
- تحافظ على الحرية والمساواة داخل المجتمع السياسي.
- ترفض الاستبداد والسلطة المطلقة.
⚠️ حدود الأطروحة:
- تفترض وعيًا دائمًا للأفراد بالإرادة العامة.
- تقلل من حدة الصراع الاجتماعي الواقعي.
- يصعب تطبيقها في المجتمعات الحديثة المعقدة.
3. هانز كلسن: الحق أساسه القانون الوضعي
🧠 المنطلق الفكري:
ينطلق كلسن من تصور قانوني وضعي يرفض الأسس الطبيعية والميتافيزيقية للحق.
📌 الأطروحة:
يرى كلسن أن ما يسمى بالحقوق الطبيعية مجرد افتراضات لا يمكن التحقق منها علميًا، وأن الحق لا وجود له إلا داخل إطار القانون الوضعي. فالحق يظهر نتيجة مشاكل واضطرابات اجتماعية تتطلب حلولًا قانونية، وتتكفل الدولة بصياغته عبر التشريعات. وبما أن المجتمعات تختلف ثقافيًا واجتماعيًا، فإن الحق يظل نسبيًا ومتغيرًا، ولا يستمد قوته إلا من القوانين والمؤسسات التي تضمن تطبيقه.
🧾 خلاصة الموقف:
الحق عند كلسن وضعي خالص، لا وجود له خارج القانون والمؤسسات القانونية.
⭐ قيمة الأطروحة:
- تقدم تصورًا واقعيًا وعمليًا للحق.
- تبرز دور القانون والمؤسسات في حماية الحقوق.
- تفسر نسبية الحق وتغيره بتغير المجتمعات.
⚠️ حدود الأطروحة:
- تنكر وجود حقوق إنسانية كونية ثابتة.
- تجعل الحق خاضعًا للقانون حتى لو كان جائرًا.
- تهمل البعد الأخلاقي للعدالة.
خلاصة عامة
يتبين من خلال هذه المواقف أن أساس الحق يختلف باختلاف المنطلقات الفلسفية؛ فهوبز يؤسسه على القوة والسلطة، وروسو يجعله قائمًا على التعاقد والإرادة العامة، بينما يحصره كلسن في القانون الوضعي والمؤسسات. وهكذا يظل الحق متأرجحًا بين كونه معطًى طبيعيًا كونيًا وكونه بناءً وضعيًا نسبيًا، مما يجعل إشكالية أساس الحق مفتوحة على نقاش فلسفي دائم.
ختامًا…
في نظرك، هل يكفي القانون الوضعي وحده لضمان الحق، أم أن الحاجة إلى أساس طبيعي تظل ضرورية؟ شاركنا رأيك، وناقش المقال مع أصدقائك.
