تمهيد إشكالي
إن الحديث عن مشروعية الدولة وغايتها، يجرنا في البداية إلى التمييز بين مفهومين أساسيين: أولهما هو مفهوم **"المشروع"**، الذي يشير إلى الحالة التي تكون فيها **الحقوق الإنسانية الأساسية** هي المحدد الأول للعلاقات الاجتماعية والسياسية. وثانيهما مفهوم **"الشرعي"**، الذي يشير إلى الحالة التي تخضع فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية لقوانين الدولة أي (**القانون الوضعي**). هكذا، فكل دولة تستند إلى مشروعية ما، وانطلاقاً من هذه المشروعية يتم اختيار الغايات من وجودها.
إشكالات المحور
إن الإشكالية التي يثيرها مفهوم الدولة داخل هذا المحور هو أساسها والغاية من وجودها، والمصدر الذي تستمد منه مشروعيتها، وهذا الاشكال تنبثق منه مجموعة من الأسئلة الموجهة للتحليل والمناقشة من قبيل:
- ما هي الدلالة التي يحملها كل من مفهوم الدولة والغاية والمشروعية كمفاهيم مركزية؟
- ومن أين تستمد الدولة مشروعيتها وما هي الغاية من وجودها؟
- هل مشروعية الدولة رهينة بوجود الأفراد، لغرض تحقيق حاجاتهم وضمان حقهم في العيش والحرية، أم أن وجود الأفراد مجرد أدوات مسخرة لخدمتها؟
مفاهيم الأساسية
الدولة: مؤسسة سياسية تتمتع بالسيادة على موقع جغرافي محدد وجماعة بشرية معينة، تمارس سلطاتها في التشريع والتنفيذ والقضاء، بهدف حفظ النظام العام وضمان الأمن وحماية الحقوق.
المشروعية: هي حق الدولة في الحكم، لا تقوم على القوة والجبر، بل هي اعتقاد المواطنين ورضاهم بأن سلطة الدولة عادلة ومبررة وتستحق الطاعة، ومصادر المشروعية متعددة وتاريخية وتشمل: المشروعية الدينية (الحق الإلهي في الحكم)، المشروعية التقليدية (استمرارية العادات والتقاليد)، المشروعية العقلانية القانونية (الإيمان بالقوانين والإجراءات الديمقراطية)
الغاية من الدولة: المقاصد والأهداف العليا التي **تبرر وجود الدولة ككيان سياسي**، وتشكل المعيار الحقيقي لمشروعيتها.
1. 🏛️ أرسطو (384-322 ق.م) : الغاية هي تحقيق السعادة والفضيلة
المنطلق الفكري: يرتكز على الاستعداد الطبيعي للإنسان (مدني بالطبع) وقدرته على التمييز بين الخير والشر بواسطة اللغة.
الأطروحة: يرى أرسطو في كتابة السياسة أن الدولة أو المدينة ظاهرة طبيعية وضرورية بل في غاية التطور الإنساني، تستمد **مشروعيتها** من الاستعداد الطبيعي للإنسان من أجل الاندماج في الحياة المدنية أو الاجتماعية بقوله **"الإنسان مدني بالطبع"**، يتدرج الإنسان في تكوينه الاجتماعي من الأسرة (لإشباع الحاجات اليومية)، إلى القرية (لتلبية حاجات أوسع)، وصولًا إلى الدولة، التي تكتمل فيها الكينونة الإنسانية. **غاية الدولة** بالنسبة لأرسطو ليست مجرد البقاء أو توفير الأمن المادي، بل هي أسمى من ذلك بكثير. غايتها هي تحقيق **"الحياة الفاضلة"** أو **"السعادة القصوى"** الدولة هي الإطار الوحيد الذي يسمح للإنسان بممارسة الفضيلة والعقل والوصول إلى كماله الأخلاقي والفكري.
الخلاصة النهائية: الدولة تستمد شرعيتها من **الضرورة الطبيعية والاجتماعية** وغايتها النهائية هي تحقيق **السعادة والفضيلة** للإنسان.
قيمة الأطروحة:
- **رفع شأن السياسة:** قدم أرسطو أساساً متيناً للفكر السياسي الفلسفي بوضع **غاية أخلاقية عليا للدولة** (السعادة والفضيلة)، مانحًا إياه من الانزلاق إلى مجرد فن إدارة السلطة والقوة.
- **التأكيد على الخير المشترك:** لا تزال فكرة أن الدولة يجب أن تسعى لتحقيق مصلحة جميع مواطنيها، وليس فقط حماية حقوق الأفراد، مبدأ أساسيًا في الفكر السياسي الحديث.
- **النظرة الواقعية:** على الرغم من مثالية هذا الموقف، قدم أرسطو تحليلًا عمليًا للأنظمة السياسية (الملكية، الأرستقراطية، السياسة الدستورية) وانحرافاتها، معتبرًا أن حكم الطبقة الوسطى هو أكثر الاستقرار.
حدود الأطروحة:
- يعتبر هذا الموقف **مثالياً جداً**، إذ يغفل دور **الصراع والقوة** في نشأة الدول التاريخية.
- يفترض أن الدولة هي **الامتداد الطبيعي للجماعة**، وهو ما لا ينطبق على نشأة الدول الحديثة.
- مفهوم المواطنة عند أرسطو كان حصريًا ومحدودًا، فقد استثنى النساء، العبيد، والأجانب ("البرابرة") من المشاركة في الحياة السياسية، مما يجعل دولته المثالية نخبوية وعنصرية حسب المعايير الحديثة.
- فكرته مرتبطة بشكل وثيق بالدولة المدينة اليونانية (Polis)، ومن الصعب تطبيقها كما هي على الدول القومية الحديثة ذات الحجم والتعدد الهائلين.
2. 🕊️ باروخ سبينوزا (1632-1677): الغاية هي الحرية عبر التعاقد الاجتماعي
المنطلق الفكري: ينطلق من ضرورة تحرير الفرد من الخوف وتمكينه من ممارسة حقه الطبيعي، عبر الإرادة الجماعية للشعب (العقد الاجتماعي).
الأطروحة: يقدم سبينوزا وهو فيلسوف عقلاني رؤية أكثر علمانية وبراغماتية للدولة. فهو ينطلق من فكرة "الحالة الطبيعية"، أو "صراع الكل ضد الكل" حيث يعيش كل فرد وفقًا لغريزته في الحفاظ على حياته، مما يؤدي إلى صراع وخوف دائمين. لذلك كان لزامًا عليه إيجاد حل للخروج من هذه الحالة، وهي أن يبرم الأفراد **عقدًا اجتماعيًا** (التعاقد الاجتماعي) يتنازلون فيه عن جزء من حريتهم وحقوقهم الطبيعية لصالح سلطة مركزية هي الدولة. ومنه فإن **الغاية** الأساسية والوحيدة للدولة عند سبينوزا هي **حفظ السلام والأمن**. الدولة هي الأداة التي تضمن للفرد أن يعيش حياة خالية من الخوف المستمر، مما يسمح له بممارسة حريته في السعي وراء مصالحه الشخصية. وكل وظائف الدولة الأخرى (الاقتصاد، الثقافة، إلخ) يجب أن تكون خادمة لهذه الغاية الأساسية.
الخلاصة النهائية: **مشروعية** الدولة عند سبينوزا مستمدة من **التعاقد الاجتماعي**، و**الغاية** من وجودها هي القدرة على فرض الأمن، والحفاظ على الحرية (بحدودها) وخصوصاً حرية الفكر والتعبير وأخيراً سيادة القانون.
قيمة الأطروحة:
- يمثل الموقف أساس الدولة الحديثة حيث يعتبر سبينوزا من أوائل من وضع أساسًا علمانيًا وعقلانيًا للدولة، مفصولًا عن الدين والغايات الميتافيزيقية.
- هذا الطرح: يدافع عن قيمة **الحرية الفردية** وحرية التفكير (**التسامح الفكري**)، كقيمة أخلاقية عليا.
- التركيز على الأمن والحرية، فالدولة القوية التي تضمن الأمن هي الشرط المسبق لازدهار الحرية الفردية.
حدود الأطروحة:
- **تقليص مفهوم الحرية:** الحرية عند سبينوزا هي في الأساس "حرية سلبية" (الخلاص من الخوف)، وهي خادمة لمنطق القوة والأمن.
- **إهمال العدالة الاجتماعية:** يركز سبينوزا على الأمن السياسي، لكنه لا يولي اهتمامًا كبيرًا للمساواة الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية. يمكن للدولة أن تكون شرعية في نظره حتى لو كانت تسود فيها فجوات طبقات هائلة، طالما أنها تحافظ على النظام.
- **الأولوية المطلقة للدولة:** في النهاية بالنسبة له، بقاء الدولة وقوتها هما الغاية، والفرد هو وسيلة لتحقيق هذه الغاية. هذا قد يتعارض مع المفاهيم الحديثة التي ترى أن الدولة هي لخدمة الفرد والمجتمع.
3. 🚩 كارل ماركس (1818-1883): الغاية هي حماية مصالح الطبقة البرجوازية
المنطلق الفكري: يرتكز على الصراع الطبقي وامتلاك الطبقة البرجوازية لوسائل الإنتاج كقوة مهيمنة.
الأطروحة: يقدم ماركس رؤية ثورية ونقدية جذرية للدولة. على عكس أرسطو وسبينوزا، لا يرى ماركس الدولة ككيان طبيعي أو محايد، بل هي نتاج تاريخي واقتصادي بحت. **فمشروعية الدولة** في نظره هي **"وعي زائف"** إنها أيديولوجيا تفرضها الطبقة الحاكمة على الطبقات المفقرة لتقبل وضعها القائم كأمر طبيعي وأبدي. والدولة الرأسمالية، مهما كانت ديمقراطية في شكلها، هي دولة غير مشروعة من منظور الطبقة العاملة لأن أساسها هو الظلم والاستغلال. و**غايتها الوحيدة** هي **حماية المصالح الاقتصادية للطبقة الرأسمالية** (المالكة لوسائل الإنتاج) وقمع الطبقة العاملة (البروليتاريا). إنها أداة للحفاظ على علاقات الإنتاج القائمة على الاستغلال والملكية الخاصة. القوانين، الجيش، الشرطة، والقضاء كلها أدوات في يد البرجوازية لفرض هيمنتها.
الخلاصة النهائية: الشرعية مستمدة من **سيطرة الطبقة الحاكمة** وغايتها هي إدارة وتنظيم **مصالح الطبقة البرجوازية** وإدارة الصراع الطبقي.
قيمة الأطروحة:
- هذا الطرح: يتوافق إلى حد كبير مع التحليل التاريخي لكيفية نشأة الدول الرأسمالية والمحافظة على مصالح النخبة الاقتصادية.
- قدّم ماركس **تحليلاً سوسيولوجياً اقتصادياً واقعياً للدولة**، حيث كشف عن **وظيفتها الحقيقية كأداة للهيمنة الطبقية**.
- ركز ماركس الانتباه على مسألة عدم المساواة الاقتصادية كأساس لعدم المساواة السياسية، مما أثر على حركات العمال والعدالة الاجتماعية في جميع أنحاء العالم.
حدود الأطروحة:
- يعتبر هذا الموقف **اختزالياً**، حيث **يختزل كل وظائف الدولة** إلى وظيفة اقتصادية طبقية فقط.
- يرفض ماركس أي دور إيجابي محتمل للدولة في تحقيق العدالة أو تقديم الخدمات العامة ضمن إطار ديمقراطي.
- ينتهي الموقف إلى الدعوة لـ **إلغاء الدولة** (في الشيوعية)، وهو ما قد يؤدي إلى ظهور أنظمة تسلطية.
خلاصة عامة
في نهاية التحليل والمناقشة، يمكن القول أنه إذا ما اعتبرنا أن الاجتماع البشري ضرورة طبيعية، وأن الدولة هي أرقى مؤسسة سياسية عرفها الإنسان، فيمكن القول إن الغاية الأساسية من وجودها والتي منحت الشرعية لكيانها، هي **ضمانها لجميع أفرادها ممارسة الإمكانات الطبيعية** التي يتوفرون عليها، وعلى رأسها **المحافظة على حرية الأفراد**، وعلى الخيرات المدنية، وكل ما يتعلق بالإنسان. والحاكم مطالب بـ **صيانة حقوقهم وحرياتهم العامة** من أجل ضمان السلم والأمان.
ختاماً... شاركنا رأيك!
بعد هذا التحليل المعمق لمختلف الأطروحات الفلسفية، حان دورك للتفكير: **أي موقف تراه أكثر إقناعاً في تفسير إشكالية مشروعية الدولة وغايتها؟** وهل تجد لهذه الأفكار تطبيقاً في واقعنا المعاصر؟
شاركنا أفكارك وآراءك النقدية في التعليقات أدناه، ولا تتردد في **استكشاف المزيد من مقالاتنا الفلسفية** لتعميق فهمك لقضايا الوجود والمعرفة.