المقدمة:
إذا كان الإنسان هو صلب الاهتمام الفلسفي منذ أن رفع سقراط شعار "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك"، فسيكون من الطبيعي أن تخصص الفلسفة حيزاً هاماً من انشغالاتها لعلاقة الإنسان بالإنسان، أي علاقة الأنا بالأغيار. إنها تلك العلاقة المركبة التي يمكن أن ينجم عنها إما علاقات إيجابية (كالصداقة، التسامح، التعاون)، أو على العكس تماماً، تولد علاقات سلبية (كالإقصاء، العنصرية، العنف). إن مثل هذه التقابلات هي التي تدفع التفكير الفلسفي أن يهتم أكثر بمفهوم الغير.
إشكالية المحور
ما هي الدلالة التي يحملها مفهوم الغير والصداقة والغيرية؟
- ❓ إذا قَبِلنا بضرورة وجود الغير بالنسبة للأنا وإمكانية معرفته المعرفة اليقينية، فما طبيعة العلاقة التي ينبغي بناؤها معه؟
- ❓ هل ينبغي بناؤها بناءً إيجابياً، مؤسساً على الصداقة والمحبة والتعاون، أم بناءً سلبياً، مؤسساً على الصراع والتشييء والإقصاء؟
📚 المفاهيم الأساسية
الغير
يشير في التمثل الشائع إلى الآخر المختلف أو المتميز عن الأنا الفردية أو الجماعية. لكن مع الفلسفة، يتخذ هذا المفهوم معنى أوسع، بحيث يشمل الآخر الشبيه أو القريب وأيضاً الآخر المخالف. وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف جون بول سارتر بقوله: **"الغير هو الأنا الذي ليس أنا، أو أنا آخر مثلي، لكنه يختلف عني بوجوده خارج ذاتي"**.
الصداقة
تحيل على كل معاني المحبة والمودة والصدق تجاه الآخرين. هي رباط إنساني نبيل، يقوم على أسس متينة من المحبة الصادقة والمودة الخالصة. فهي ليست مجرد علاقة عابرة، بل هي شراكة حياتية تقوم على الصدق والوفاء.
الغيرية (Altruism)
توجه أخلاقي يتحرك فيه الفرد بتلقائية نحو الغير. فهي نزوع إنساني أصيل يعبر عن أسمى درجات الاهتمام بالغير، حيث يضع الفرد احتياجات الآخرين في مقدمة أولوياته، ليس انتظاراً لمقابل أو طمعاً في مكافأة، بل انطلاقاً من إحساس عميق بالمسؤولية والتضامن الإنساني.
🤝 أرسطو: الصداقة كفضيلة وضرورة
يرى أرسطو أن الصداقة أمر لا غنى عنه في الحياة الإنسانية، فهو إحساس فطري في قلب الإنسان، إذ يعجز الفرد لوحده أن يكفي ذاته بذاته، لذلك فهو يدخل في صداقات مع الآخرين.
- • الأساس: الضرورة الفطرية للغير، والسعي نحو تحقيق السعادة والفضيلة.
- • الموقف: يقسم أرسطو الصداقة إلى ثلاثة أنواع: صداقة المتعة وصداقة المنفعة (وكلاهما زائف وزائل بزوال السبب)، والصداقة الحقيقية التي هي صداقة الفضيلة.
- • النتيجة: الصداقة الحقيقية تقوم على حب الآخر لذاته، لأنها غاية في حد ذاتها، وهي دائمة ومستمرة، ويمكن من خلالها أن تتحقق المنفعة والمتعة، ولكن ليس كغاية في حد ذاتها، وإنما كنتيجة ضرورية لهذا الصنف النادر.
- • الخلاصة: العلاقة المثلى هي الصداقة القائمة على الفضيلة، وهي علاقة إيجابية ودائمة.
❤️ أوغست كونت: الغيرية كمبدأ إنساني أعلى
يدافع أوغست كونت عن مبدأ أساسي شعاره الإنسانية والغيرية كمرجعية أساسية للعلاقة بين الأنا والغير، وهو مؤسس الفلسفة الوضعية.
- • الأساس: مبدأ الإنسانية، حيث "كل شيء فينا ينتمي للإنسانية، وكل شيء يأتينا منها".
- • الموقف: الإنسان كفرد مدين للإنسانية ومحتاج إليها، فما نحن فيه من خير ونعيم كان سببه هو الغير (العلماء، المفكرون، المخترعون...). أما الغيرية، فهي تحتوي داخلها مختلف القيم الإنسانية الإيجابية.
- • النتيجة: يجب تجاوز أنانية الفرد وسعيه وراء تحقيق نزعاته المصلحية الضيقة، والإيمان بضرورة التضحية والحياة من أجل الغير. وهذا يتحقق بتقوية وإغناء مشاعر التضامن والتعاطف والحب بين أفراد المجتمع الإنساني.
- • الخلاصة: العلاقة يجب أن تكون غيرية، تضحوية، ومؤسسة على الانسجام الجماعي.
⚔️ ألكسندر كوجيف: الصراع من أجل الاعتراف
يرى ألكسندر كوجيف أن أساس العلاقة الرابطة بين الأنا والغير لا تتأسس أو تقوم على مبدأ الصداقة أو التضحية، بل على الهيمنة والتحكم والصراع (بتحليل أطروحة هيغل).
- • الأساس: الحاجة إلى الاعتراف بالذات من طرف الآخر، والصراع الوجودي كطريق لذلك الاعتراف.
- • الموقف: يسعى كل طرف إلى انتزاع الاعتراف بنفسه من الطرف الآخر. هذا الاعتراف لا يُمنح سلمياً، ولكن يتم انتزاعه من خلال صراع يخاطر فيه الطرفان بحياتهما حتى الموت.
- • النتيجة: هذا الموت لا يحقق الاعتراف. وإنما يحققه استسلام أحد الطرفين (يفضل المنهزم أن يظل في خدمة المنتصر بدل الموت). وبذلك تنشأ "علاقة السيد بالعبد"، فالانتصار يحوّل أحدهما إلى سيد والهزيمة تحوّل الآخر إلى عبد.
- • الخلاصة: العلاقة هي في جوهرها صراع، وتنتهي بـ السيادة والتبعية (علاقة سلبية).
خلاصة المحور
إن التفكير في العلاقة مع الغير يكشف عن إشكالية عميقة وغنية في طرحها لهذه المسألة الفلسفية. فالعلاقة بين الأنا والآخر علاقة جد مركبة، وهي تختلف وفقاً لتصنيف الأنا للآخر (إما كغير قريب أو بعيد). ومن هناك تنقسم العلاقات القائمة على خلفية هذا التصنيف إلى علاقات إيجابية وسلبية. تتأرجح ما بين النظرة الإقصائية (كوجيف)، والنظرة الأخلاقية الوجدانية والنظرة التي تريد أن تؤسس العلاقة معه على أسس الحوار والصداقة والتضحية (أرسطو وكونت).
**الخلاصة:** العلاقة مع الغير هي علاقة جدلية تتراوح بين الضرورة الوجودية والفضيلة الأخلاقية.
