تمهيد إشكالي
إن طرح مسألة معرفة الغير يقتضي أولًا تحديد معنى المعرفة ذاتها، ثم الوقوف عند الإشكالات التي تثيرها معرفة شخص آخر يملك عالماً داخلياً خاصاً به. فالمعرفة هي ذلك النشاط الذي تقوم به الذات من أجل تعقّل وفهم موضوع ما. وهي تقوم على عنصرين أساسيين: الذات العارفة، بما تتميز به من وعي وإرادة وحرية، والموضوع المعروف، الذي يكون عادة شيئًا خارجيًا خاليًا من الوعي. غير أن الإشكال يظهر حين يصبح الغير – وهو ذات واعية مثل الأنا – موضوعًا للمعرفة، فهل يمكن حينها الحديث عن معرفة يقينية، أم أن معرفة الغير تظل تخمينية ومحدودة؟
إشكالات المحور
- ما الدلالة التي تحملها مفهوما الغير والمعرفة؟
- هل يمكن الوصول إلى معرفة يقينية بالغير أم أن معرفته مستحيلة أو تخمينية؟
- وإذا كانت معرفة الغير ممكنة، فهل تُعد الذات شرطًا أساسًا لتحقيق هذه المعرفة؟
شرح المفاهيم الأساسية
الغير: هو الآخر المختلف عن الأنا، سواء كان شبيهًا أو مخالفًا، وهو ذات واعية مستقلة لها عالمها الداخلي الخاص.
المعرفة: هي محاولة فهم العالم الداخلي لشخص آخر (أفكاره، مشاعره، دوافعه)، وهي معرفة غير مكتملة بالضرورة، تظل جزئية وقابلة للخطأ.
🔒 غاستون بيرجي: معرفة الغير مستحيلة (حتمية العزلة)
المنطلق الفكري: تصور وجودي يؤكد عزلة التجربة الذاتية لكل إنسان.
الأطروحة: يرى غاستون بيرجي أن معرفة الغير معرفة يقينية أمر مستحيل، لأن كل ذات إنسانية تعيش تجربة داخلية خاصة بها، لا يمكن اختراقها أو النفاذ إليها. فالأنا والغير يعيشان داخل عالمين مغلقين، حتى وإن ظهرت بينهما مظاهر التعاطف والمشاركة الوجدانية. فالألم أو الفرح الذي يعيشه الغير يظل تجربة ذاتية محضة لا يمكن للأنا أن تعيشها بنفس الدرجة أو العمق.
خلاصة الموقف: معرفة الغير مستحيلة بسبب الطبيعة الانعزالية للتجربة الذاتية الإنسانية.
قيمة الأطروحة:
- تكشف عمق العالم الداخلي للذات الإنسانية.
- تنبه إلى حدود التعاطف والتواصل الإنساني.
- تحذر من وهم الفهم الكلي للآخر.
حدود الأطروحة:
- تغلق إمكان التواصل الحقيقي بين البشر.
- تنكر إمكان بناء معرفة مشتركة.
- تؤدي إلى عزلة إنسانية متطرفة.
💡 ماكس شيلر: معرفة الغير ممكنة (الإدراك الكلي)
المنطلق الفكري: الفينومينولوجيا والتجربة الإنسانية المشتركة.
الأطروحة: يؤكد ماكس شيلر أن معرفة الغير ممكنة، لأننا ندرك مشاعره وأحاسيسه من خلال مظاهره الخارجية التي تعبّر عنها تعابير الجسد والوجه والصوت. فالإدراك لا يتم عبر تحليل ميكانيكي، بل عبر إدراك كلي يوحد بين الجسد والنفس. فالابتسامة، والدموع، ونبرة الصوت، كلها علامات دالة على عالم داخلي مشترك بين البشر.
خلاصة الموقف: معرفة الغير ممكنة، وتتحقق عبر التعاطف والإدراك الكلي للتجربة الإنسانية.
قيمة الأطروحة:
- تؤسس إمكان التواصل الإنساني.
- تربط المعرفة بالتعاطف والتجربة المشتركة.
- تتجاوز الفصل بين الجسد والنفس.
حدود الأطروحة:
- تفترض صدق المظاهر الخارجية.
- تغفل إمكان التظاهر والخداع.
- لا تضمن معرفة يقينية كاملة.
❓ نيكولا مالبرانش: معرفة الغير تخمينية (مبدأ المماثلة)
المنطلق الفكري: العقلانية الكلاسيكية ومطلب اليقين.
الأطروحة: يرى مالبرانش أن معرفة الغير لا يمكن أن تكون يقينية، لأننا لا نملك وصولًا مباشرًا إلى عالمه الداخلي. لذلك نعتمد على مبدأ المماثلة، أي إسقاط ما نشعر به نحن على الغير. فحين نرى شخصًا يتألم، نحكم على ألمه انطلاقًا من تجاربنا الذاتية، لا من تجربة الغير نفسها.
خلاصة الموقف: معرفة الغير تخمينية وافتراضية، قائمة على الإسقاط وليست على اليقين.
قيمة الأطروحة:
- تُبرز حدود العقل في معرفة الذوات الأخرى.
- تفسر أخطاء الأحكام حول الغير.
- توفق بين إمكان المعرفة وحدودها.
حدود الأطروحة:
- تجعل المعرفة نسبية وغير حاسمة.
- تُبقي الغير في دائرة الشك.
- تقلل من قيمة التعاطف الحقيقي.
خلاصة عامة
يتبين أن معرفة الغير إشكالية معقدة؛ فهي تتأرجح بين الاستحالة بسبب العزلة الذاتية (بيرجي)، والإمكان عبر التعاطف والإدراك الكلي (شيلر)، وبين كونها معرفة تخمينية قائمة على الإسقاط (مالبرانش). وهكذا تظل معرفة الغير ممكنة جزئيًا، لكنها غير مكتملة ويشوبها الشك دائمًا.
