recent
أخبار ساخنة

المحور الأول: الحرية والحتمية (عبد الله العروي - كارل بوبر)

المحور الأول: الحرية والحتمية

تمهيد إشكالي:


الحرية بمعناها العام هي غياب الحواجز والموانع التي تقيد فكر وسلوك وشعور الإنسان؛ وإذا كان الفعل الأخلاقي فعل إرادي حر فإن الحرية تتعلق بالأفكار والأفعال والوجدان الإنساني برمته. لهذا يمكن التمييز بين حرية التفكير وحرية التصرف، أو قل بين حرية داخلية وحرية خارجية. لكن ما معنى أن يكون الإنسان حرا؟ هل يكون حرا في غياب الحواجز أم في قدرته على تجاوز هذه الحواجز؟ وهل كل الحواجز والموانع التي تقف في وجه الإنسان فكرا وفعلا، وعيا وممارسة، يمكن أن تعد أسبابا تقيد الحرية التي يدعيها الإنسان لنفسه؟ ولنفرض أن الحرية هي في غياب القيود والحدود، ألن يؤدي ذلك الغياب إلى الفوضى والعنف والتظالم؟ متى إذن تكون إرادتي حرة ومتى تكون مقيدة؟ ثم أليس الوعي بالقيود والحدود هو شرط كل تحرر ممكن؟

أولا: موقف موقف عبد الله العروي


يؤكد العروي أن حرية الإنسان كانت عبر التاريخ مطلبا فرديا وجماعيا. لكن في العقود الأخيرة شككت الاكتشافات العلمية واستعمالاتها الجارية في حرية الإنسان؛ لم تعد مشكلة الحرية مسألة اجتماعية أو سياسية أو حتى فلسفية، بل صارت مسألة مشروطة بالعلم. لقد قدم العلم الحديث نفسه كمحرر للإنسان من حتمية الطبيعة وضروراتها، فإذا به يتحول وسيلة للتحكم والسيطرة على الإنسان في يد من يمتلكونه. إذن لقد صار العلم يخدم حرية الإنسان كما صار يحاصرها ويقضي عليها.
وهكذا نرى المجتمع المعاصر يتخوف من الدوافع الحقيقية التي تحرك العلماء، الذين يتيحون بمكتشفاتهم العلمية وسائل التحكم والسيطرة توظف من طرف إرادات وقوى تسلطية وتحكمية. وكأن الإشكال القديم حول مسألة الجبر والاختيار التي طرحت في الفكر الديني تعود من جديد بصيغة أخرى وهي: كيف يمكن التوفيق بين حرية الوجدان وحتمية العلم الطبيعي؟

ثانيا: موقف كارل بوبر

انتقد كارل بوبر النزعة التاريخية التي يرى أصحابها أن العلم يتسم بالحتمية وأنه يشكل خطرا على حرية الإنسان واختياره. ويعتقد أن الإنسان يخضع لنفس قوانين الطبيعة، لكنه ليس مقيدا بها بشكل حتمي. والحال أن أفعال الإنسان تؤكد أنه حر؛ ولو حرية جزئية. وإذا كان كذلك فهذا يهدم وينقض فكرة الحتمية الطبيعية من أساسها. إذن إذا كان الإنسان كائنا طبيعيا وفي نفس الآن كائنا حرا، فهذا يدل بكيفية معينة أن طبيعته الإنسانية فيها شيء من الحرية؛ يعني هذا أن الإنسان قادر على الاختيار الحر في الفعل والإبداع والحركة والتصرف حتى في تلك القوانين وبها، بيد أن حريته تخضع مع ذلك لمحددات ثلاثة: إكراهات العالم الطبيعي، محددات عالم الإحساس والوجدان، قوانين عالم الفكر والتمثلات. ولكن رغم وجود هذه المحددات فإن الإنسان يستطيع الاختيار. أي أن حرية الإنسان توجد في ظل تلك المحددات وفي إطارها، فهي حرية مشروطة بظروف ذاتية وموضوعية فيها من الإمكان بقدر ما فيها من ضرورة.

خلاصة المحور

يعيدنا السؤال حول الحرية الإنسانية إلى الإشكال القديم: هل الإنسان مخير أم مسير؟ لكن هذا السؤال لا يطرح اليوم من داخل الفكر الديني وحده بل امتد إلى العلوم الإنسانية وإلى العلوم الطبيعية. الإنسان في هذا السياق يبدو حرا ومقيدا في الآن نفسه؛ حر بإرادته ووعيه ولكنه مقيد بالشروط الاجتماعية والبيولوجية والنفسية اللاواعية. هناك حتمية في هذا الإطار ولكنها ليست مغلقة بل توجد في قلبها حرية ما. هذه الحرية تتجلى في أفعال الإنسان المختلفة التي لا يمكن البتة التنبؤ بها، مثلما يمكن التنبؤ بالظواهر الطبيعية.


google-playkhamsatmostaqltradent