📁 آخر المقالات

المحور الثالث: الواجب والمجتمع (دوركايم - برغسون - فيبر)

المحور الثالث: الواجب والمجتمع


إذا كان الواجب يتضمن نوعا من الإكراه والإلزام، فإن هذا الإكراه والإلزام قد لا يكون باطنيا وفرديا، بحيث يرتبط فقط بالقهر الذي يمارسه القانون الأخلاقي على الفرد، بل قد يكون أيضا خارجيا واجتماعيا، بحيث يرتبط بالقهر الذي يمارسه المجتمع بمختلف مكوناته (المؤسسات، العادات، التقاليد، والأعراف…) على الأفراد المكونين له. وهذا يعني أن الواجب، بوصفه إكراها اجتماعيا، قد يشكل تجاوزا لإرادة الأفراد، وفي نفس الوقت يوجه سلوكاتهم ويؤطر وجودهم. من هنا، تطرح إشكالية علاقة الواجب بالمجتمع. وهي الإشكالية التي يمكن التعبير عنها من خلال الإشكال الآتي:
هل الواجب الأخلاقي هو مجرد صدى لصوت المجتمع أم أنه يتجاوزه إلى مستوى الإنسانية ككل...؟

أولا : موقف إميل دوركايم

إن المجتمع هو المصدر الوحيد للواجبات عند دوركايم، وهذا ما نجده في كتابه التربية الأخلاقية: إذ يقول: "إن ضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع، ولا يعبر إلا عنه، وإذا تكلم ضميرنا، فإنما يردد صوت المجتمع فينا". فيؤكد على أن للأفراد مشاعر عديدة تعبر عن صوت المجتمع الذي يحيى داخل ذواتهم، ويمارس عليهم نوعا من القهر والإكراه الخفي. فالإنسان، بهذا المعنى، فردا في جماعة يتأثر بها ويؤثر فيها، ويأخذ عنها قيمها وتصوراتها الأخلاقية، وذلك عبر التنشئة الاجتماعية، التي تتولاها مختلف المؤسسات الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، الأصدقاء…).
فالضمير الأخلاقي إذن هو تعبير عن صوت المجتمع، وهو يتردد داخل الذات الفردية بلغة الآمر والناهي، مما يجعله يتمتع بسلطة قاهرة. فالواجب الأخلاقي، حسب دوركايم، مصدره الوحيد هو المجتمع، الذي، عبر سلطته على الأفراد، يرسخ، في الوعي الفردي، ما يجب القيام به من واجبات.

ثانيا: موقف هنري برغسون

يؤكد أن المجتمع هو الذي يرسم للفرد مناهج حياته اليومية، فهو وإن كان يتألف من إرادات إنسانية حرة، إلا أن هذا لا يعني أن هذه الإرادات هي التي تحدد الواجبات التي يقوم بها الأفراد، لأن الإرادات الإنسانية تخضع هي ذاتها لضغط خارجي مصدره المجتمع. هكذا فالمجتمع هو الذي يحدد للفرد واجباته وقواعد سلوكه اليومية. ويتم خضوع الفرد للمجتمع بنوع من الآلية والعفوية التي لا يكاد يشعر الأفراد خلالها بذلك الضغط الممارس عليهم من قبل المجتمع. من هنا يتساءل برغسون عن طبيعة هذا المجتمع، هل هو الذي نعيش في حدوده الضيقة أم هو المجتمع الواسع المنفتح على الإنسانية...؟ فيجيب على هذا السؤال مؤكدا على وجود واجب كوني لا يرتبط بالمجتمع الضيق فقط، وإنما يرتبط بالإنسان من حيث هو إنسان. وذلك بغض النظر عن ثقافته أو جنسه أو دينه. فيمكن القول، إذن، إن بعض الواجبات نابعة من ضمير المجتمع المحلي، وبعضها الآخر نابع من ضمير المجتمع الكوني.

ثالثا: موقف ماكس فيبر

يميز بين أخلاق الاعتقاد أو الضمير أو الاقتناع، وبين أخلاق المسؤولية أو القانونية أو المهنية.
فالأخلاق الأولى بمظاهرها الأيديولوجية والعقدية الإيمانية غير مضمونة في نظره، وهي قابلة لعدم الالتزام من طرف الكثير من الأفراد، لأن ضميرهم معرض في أي لحظة للضعف والوهن، واعتقادهم قد يتعرض في أية لحظة للخور، ومن السهل عليهم حينئذ أن يعللوا عدم التزامهم بواجباتهم إما بتدخل المشيئة الإلهية أو القدر أو أية قوة غيبية أو سحرية.
وفي المقابل إن أخلاق المسؤولية، لا علاقة لها بالعقائد، لأنها تقوم على مبدأ المحاسبة القانونية في إطار مؤسساتي وبيروقراطي، فالفرد يكون عرضة للمحاسبة والمعاقبة إن لم يقم بواجباته بكفاءة ودقة ونزاهة، لكونها منظمة بطريقة عقلانية وقانونية صارمة، وهو يعرف ذلك إن لم يلتزم به، فلا مجال هنا لتبرير عدم القيام بالواجبات والمسؤوليات بحجج دينية أو غيبية ونحوها، فإذا امتنع عن القيام بها لعارض عرض له، فلا بد من تبريره بالأدلة القانونية والمهنية الكافية.

خلاصة المحور

خلاصة القولة وكإجابة على السؤال المطروح هل الواجب الأخلاقي مجرد صدى لصوت المجتمع أم أنه يتجاوزه إلى مستوى الإنسانية ككل، نجد تباين واخلاف الفلاسفة والمفكرين في معالجة هذا الإشكال، فالواجب الأخلاقي لم ينتجه إلا المجتمع، (دوركايم) والفرد يخضع للمجتمع بنوع من التلقائية والعفوية التي لا يكاد يشعر به الأفراد لكون الواجب الأخلاقي نابع من المجتمع المحلي تارة ومن المجتمع الكوني الإنساني تارة أخرى (برغسون)، في حين فالحياة الاجتماعية لا تنتظم إلا إذا كان كل فرد يؤدي واجباته ويتحمل مسؤولياته تجاه المجتمع ليس فقط اعتقادا واقتناعا بل عن طريق الإلزام القانوني والمؤسساتي المعقلن.

تعليقات