المقدمة:
إن الإنسان لا يعيش كذات معزولة ومنغلقة على نفسها، بل إنه يتفاعل ويتبادل التأثير مع الغير، لكونه يعيش داخل أشكال من التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية والثقافية. ويُعد مفهوم الغير من المفاهيم الفلسفية الحديثة، ولم يتبلور بوصفه مشكلة فلسفية إلا في زمن متأخر نسبياً، وبصفة خاصة مع فلسفة هيغل، بعدما كان اهتمام التفكير الفلسفي يتمحور حول الذات. وعادة ما يُستعمل مفهوم الغير للإشارة إلى ذلك الآخر من الناس المتميز عن الأنا (فردية كانت أو جماعية)، وتتأسس أسباب الشعور بهذا التمايز بعوامل مختلفة (الجنس، السن، العرق، الثقافة، التراتبيات الاجتماعية...).
إشكالات المحور
ما هي الدلالة التي يحملها كل من مفهومي الغير والوجود؟
- ❓ هل يمكن التأكيد على أهمية وجود الغير بالنسبة للأنا، أم أن الوجود عرضي فقط؟
- ❓ وهل يمكن اعتبار وجود الغير ضرورياً لوعي الذات بنفسها، أم أن هذا الوجود افتراضي ومشكوك فيه؟
📚 المفاهيم الأساسية
الغير
يشير في التمثل الشائع إلى الآخر المختلف أو المتميز عن الأنا الفردية أو الجماعية. لكن مع الفلسفة، يتخذ هذا المفهوم معنى أوسع، بحيث يشمل الآخر الشبيه أو القريب وأيضاً الآخر المخالف. وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف جون بول سارتر بقوله: **"الغير هو الأنا الذي ليس أنا، أو أنا آخر مثلي، لكنه يختلف عني بوجوده خارج ذاتي"**.
الوجود
هو الحضور الفعلي لأي شيء. لكن وجود الغير هو حضور خاص: حضور شخص آخر واعٍ ومستقل، وهذا الحضور ضروري لمعرفة من أنا ولإعطاء معنى لوجودي في العالم.
❓ رينيه ديكارت: الغير وجود افتراضي (اليقين الذاتي)
يؤدي الكوجيطو الديكارتي ("أنا أفكر إذن أنا موجود") إلى استبعاد مفهوم الغير؛ إذ يرى رينيه ديكارت أن "الأنا" أو "الذات المفكرة" قادرة على التعرف على نفسها بشكل مباشر ودون تدخل الآخرين، لكونها ذات مفكرة، حرة، وواعية وفعالة.
- • الأساس: اليقين بالذات المفكرة (الكوجيطو)، والشك في كل ما هو خارجي عنها.
- • الموقف: وضع ديكارت الذات في مقابل الآخر (العالم والإنسان) القابل للشك بل والمشكوك في وجوده أصلاً. فالحقيقة اليقينية الوحيدة التي لا تقبل الشك وتفرض نفسها بشكل بديهي هي "الأنا أفكر"، أما وجود الغير فمشكوك فيه.
- • النتيجة: يمكنني إدراك الأشياء اعتماداً على تفكيري ولست بحاجة إلى أي شخص آخر، وأُثبت وجودي في غياب الآخرين، وإذا كانوا حاضرين، فوجودهم افتراضي فقط. يقول ديكارت: **"...أنظر من النافذة فأشاهد بالمصادفة رجالاً يسيرون في الشارع مع أني لا أرى من النافذة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاء للآلات صناعية... لكني أحكم بأنهم أناس"**.
- • الخلاصة: وجود الغير افتراضي، غير ضروري لوعي الذات.
💥 جون بول سارتر: الغير وسيط حتمي (الصراع الوجودي)
يرى جون بول سارتر أن وجود "الغير" ضروري بالنسبة "للأنا"، فهو ليس مجرد وجود افتراضي استدلالي بل وسيط حتمي بين الذات وذاتها.
- • الأساس: وجود الغير كسلسلة من المشاعر والأفكار والإرادات المستقلة عني.
- • الموقف: وجود الغير له وجهان متناقضان: من جهة هو شرط لإدراك ذاتي ووجودي، ومن جهة ثانية فهو يهدد كياني ويسلبني حريتي وعفويتي. فالعلاقة التي تربطني بالغير هي علاقة صراع ونفي، حيث كل طرف يريد ممارسة حريته وإرادته.
- • النتيجة: يقدم سارتر تجربة "الخجل" كدليل، حيث يتصرف الإنسان بمفرده بعفوية وتلقائية، وما إن ينتبه أن أحداً يراقبه حتى تتجمد أفعاله. إن "النظرة" (كبنية أساسية) هي التي تحكم علاقة الأنا بالأغيار، غير أن المسألة متبادلة بين الأنا والغير: "ينظر إليّ فيشلني، وأنظر إليه فأشله".
- • الخلاصة: وجود الغير ضروري، لكنه مصدر صراع وتهديد للحرية.
⚖️ فريدريك هيغل: الغير شرط الاعتراف (الجدلية)
يؤكد فريدريك هيغل على ضرورة وجود الغير في تشكيل الوعي بالذات، ويرى أن وعي الذات لا يكتمل إلا عبر الاعتراف بها من طرف الآخرين.
- • الأساس: جدلية الوعي بالذات، والحاجة إلى الاعتراف الخارجي.
- • الموقف: كل ذات ترغب في الاعتراف بها من طرف الآخرين، ولا قيمة لوعي ذاتي منعزل لا يحظى بالرضا أو القبول من طرف الغير. ولأن غاية الحصول على الاعتراف تميز الأنا والغير معاً، فإن النتيجة هي دخول الطرفين في صراع لا ينتهي إلا باستسلام أحدهما.
- • النتيجة: تنشأ بين الطرفين علاقة السيد بالعبد أو التابع، وبذلك يقر هيغل بأن الوعي بالذات لا يتحقق بشكل معزول عن الغير، بل يتوقف على اعتراف يكون ثمنه صراع يفضي إلى السيادة والتبعية بين الذوات.
- • الخلاصة: وجود الغير ضروري، وهو شرط لتحقيق الوعي الذاتي عبر الاعتراف المتبادل.
خلاصة المحور
إذا كانت الفلسفة الديكارتية تؤكد على أن الشيء الذي نكون متيقنين من وجوده هو **"الأنا"**، وأن وجود **"الغير"** أو الأنا الآخر وجوده افتراضي محتمل قابل للشك، فإن سارتر وهيغل يريان أن وجود **"الغير" ضروري** لوجود "الأنا" ومُكوّن له، وليس مجرد وجود افتراضي استدلالي.
**خلاصة القول:** وجود الغير شرط لوجود الذات، ولكي تتوصل الذات إلى حقيقة كيفما كانت حول ذاتها، لابد لها أن تمر عبر الغير. لكن السؤال الذي يبقى مطروحاً: إذا كان "الغير" موجوداً "كأنا آخر"، فهل معرفته ممكنة أم مستحيلة...؟
