📁 منوعات

مشروعية الدولة وغايتها

تمهيد إشكالي

إن الحديث عن مشروعية الدولة وغايتها، يجرنا في البداية إلى التمييز بين مفهومين أساسيين: أولهما هو مفهوم "المشروع"، الذي يشير إلى الحالة التي تكون فيها **الحقوق الإنسانية الأساسية** هي المحدد الأول للعلاقات الاجتماعية والسياسية. وثانيهما مفهوم "الشرعي"، الذي يشير إلى الحالة التي تخضع فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية لقوانين الدولة (أي **القانون الوضعي**). هكذا، فكل دولة تستند إلى مشروعية ما، وانطلاقاً من هذه المشروعية يتم اختيار الغايات من وجودها.

إشكالات المحور

إن الإشكالية التي يثيرها مفهوم الدولة داخل هذا المحور هو أساسها والغاية من وجودها، والمصدر الذي تستمد منه مشروعيتها، وهذا الاشكال تنبثق منه مجموعة من الأسئلة الموجهة للتحليل والمناقشة من قبيل:

  • ما هي الدلالة التي يحملها كل من مفهوم الدولة والغاية والمشروعية كمفاهيم مركزية؟ 
  • ومن أين تستمد الدولة مشروعيتها وما هي الغاية من وجودها؟ 
  • هل مشروعية الدولة رهينة بوجود الأفراد، لغرض تحقيق حاجاتهم وضمان حقهم في العيش والحرية، أم أن وجود الأفراد مجرد أدوات مسخرة لخدمتها؟ 

مفاهيم الأساسية

  • الدولة: تنظيم سياسي مؤسساتي يتمتع بالسيادة على موقع جغرافي محدد وجماعة بشرية مستقرة، يمارس سلطاته في التشريع والتنفيذ والقضاء، بهدف حفظ النظام العام وضمان الأمن وحماية الحقوق.
  • الشرعية القانونية: الحالة التي تخضع فيها جميع العلاقات الاجتماعية والسياسية والقانونية... **للتشريعات الدستورية والقانونية**، مما يضمن خضوع الجميع لحكم القانون.
  • الغاية من الدولةالمقاصد والأهداف العليا التي **تبرر وجود الدولة ككيان سياسي**، وتشكل المعيار الحقيقي لمشروعيتها.


1. 🏛️ أرسطو : الغاية هي تحقيق السعادة والفضيلة

المنطلق الفكري: يرتكز على الاستعداد الطبيعي للإنسان (مدني بالطبع) وقدرته على التمييز بين الخير والشر بواسطة الكلام.

الأطروحة: يرى أرسطو أن نشوء الدولة يعود إلى الاستعداد الطبيعي للإنسان من أجل الاندماج في الحياة المدنية أو الاجتماعية **"الإنسان مدني بالطبع"**، ولا يستطيع العيش خارج الجماعة. وبناءً على مؤهلاته الطبيعية وقدرته على التحدث، فإن الإنسان قادر على تبادل المعرفة وتأسيس الأسرة والدولة، ومنه الارتقاء من عالم الحيوانية إلى عالم الإنسانية. **والنتيجة النهائية هي أن الهدف الأساسي للدولة هو ضمان خير وسعادة جميع الأفراد، وتحقيق اكتمالهم في الاجتماع المدني الذي يضمن حياة فاضلة يسود فيها الخير والعدالة والمساواة.**

الخلاصة النهائية: الدولة تستمد شرعيتها من **الضرورة الطبيعية والاجتماعية** وغايتها النهائية هي تحقيق **السعادة والفضيلة** للإنسان.

قيمة الأطروحة:

  • قدم أرسطو أساساً متيناً للفكر السياسي الفلسفي بوضع **غاية أخلاقية عليا للدولة** (السعادة والفضيلة).
  • هذا الطرح: ما زال الموقف راهنياً في الدعوة إلى جعل السياسة **فناً لإدارة السعادة** وليس فقط إدارة السلطة.

حدود الأطروحة:

  • يعتبر هذا الموقف **مثالياً جداً**، إذ يغفل دور **الصراع والقوة** في نشأة الدول التاريخية.
  • يفترض أن الدولة هي **الامتداد الطبيعي للجماعة**، وهو ما لا ينطبق على نشأة الدول الحديثة.

2. 🕊️ باروخ سبينوزا: الغاية هي الحرية عبر التعاقد الاجتماعي

المنطلق الفكري: ينطلق من ضرورة تحرير الفرد من الخوف وتمكينه من ممارسة حقه الطبيعي، عبر الإرادة الجماعية للشعب (العقد الاجتماعي).

الأطروحة: يرى سبينوزا أن الغاية من تأسيس الدولة، ليست فرض السيادة والنفوذ أو إرهاب الناس، وإنما الغاية الحقيقية هي **الحرية**، وذلك بتحرير الفرد من كل مظاهر الخوف. فالغاية منها، ليست تشييء الإنسان وسلبه حريته، بل **تحقيق الشروط المواتية ليستخدم عقله استخداماً حراً**. وهذه الحرية ليست مطلقة، بل **حرية أخلاقية** لا تتعارض مع قوانين العقل والأخلاق. **والنتيجة النهائية هي أن شرعية الدولة مستمدة من الإرادة الجماعية للشعب، والغرض الحقيقي من إقامة الدولة هو حرية التفكير.**

الخلاصة النهائية: شرعية الدولة مستمدة من **الإرادة التعاقدية**، والغاية من وجودها هي تحقيق **الحرية والأمن وحرية التفكير**.

قيمة الأطروحة:

  • يمثل الموقف **انتقالاً إلى الغاية الليبرالية الحديثة**، حيث يجعل **الحرية الفردية وحرية التفكير** القيمة العليا للدولة.
  • هذا الطرح: يدافع عن قيمة **الحرية الفردية** والتسامح الفكري، كقيمة أخلاقية عليا.

حدود الأطروحة:

  • يقلل هذا الموقف من **دور القوة والعنف** في تأسيس الدول.
  • قد تكون الحرية التي يقدمها **مشروطة جداً** (لا تتعارض مع قوانين العقل والأخلاق)، مما قد يفتح الباب أمام **تسلط الدولة** باسم النظام.

3. 🚩 كارل ماركس: الغاية هي حماية مصالح الطبقة البرجواجية

المنطلق الفكري: يرتكز على الصراع الطبقي وامتلاك الطبقة البرجوازية لوسائل الإنتاج كقوة مهيمنة.

الأطروحة: يرى كارل ماركس أن الدولة ليست محايدة، لكنها تقف إلى جانب طبقة معينة من المجتمع على حساب الطبقات أو الأفراد الآخرين، لذا فهي دولة تابعة وليست مستقلة عن رغبات الأفراد والجماعات. فالدولة غير متوازنة وغير موضوعية، ووجودها يؤدي إلى وجود صراعات طبقية. إن الدولة هي وسيلة تستخدمها **الطبقة البرجوازية** للحفاظ على مصالحها وحماية امتيازاتها وضمان وجودها كطبقة مهيمنة. **والنتيجة النهائية هي أن الدولة لا تستمد شرعيتها إلا من خلال هذا الصراع الطبقي، ونتيجة لذلك، فإن شرعيتها مستمدة من الطبقة البرجوازية.**

الخلاصة النهائية: الشرعية مستمدة من **سيطرة الطبقة الحاكمة** وغايتها هي إدارة وتنظيم **مصالح الطبقة البرجوازية** وإدارة الصراع الطبقي.

قيمة الأطروحة:

  • قدّم ماركس **تحليلاً سوسيولوجياً اقتصادياً واقعياً للدولة**، حيث كشف عن **وظيفتها الحقيقية كأداة للهيمنة الطبقية**.
  • هذا الطرح: يتوافق إلى حد كبير مع التحليل التاريخي لكيفية نشأة الدول الرأسمالية والمحافظة على مصالح النخبة الاقتصادية.

حدود الأطروحة:

  • يعتبر هذا الموقف **اختزالياً**، حيث **يختزل كل وظائف الدولة** إلى وظيفة اقتصادية طبقية فقط.
  • ينتهي الموقف إلى الدعوة لـ **إلغاء الدولة** (في الشيوعية)، وهو ما قد يؤدي إلى ظهور أنظمة تسلطية.

خلاصة عامة

في نهاية التحليل والمناقشة، يمكن القول أنه إذا ما اعتبرنا أن الاجتماع البشري ضرورة طبيعية، وأن الدولة هي أرقى مؤسسة سياسية عرفها الإنسان، فيمكن القول إن الغاية الأساسية من وجودها والتي منحت الشرعية لكيانها، هي **ضمانها لجميع أفرادها ممارسة الإمكانات الطبيعية** التي يتوفرون عليها، وعلى رأسها **المحافظة على حرية الأفراد**، وعلى الخيرات المدنية، وكل ما يتعلق بالإنسان. والحاكم مطالب بـ **صيانة حقوقهم وحرياتهم العامة** من أجل ضمان السلم والأمان.

ختاماً... شاركنا رأيك!

بعد هذا التحليل المعمق لمختلف الأطروحات الفلسفية، حان دورك للتفكير: **أي موقف تراه أكثر إقناعاً في تفسير إشكالية مشروعية الدولة وغايتها؟** وهل تجد لهذه الأفكار تطبيقاً في واقعنا المعاصر؟

شاركنا أفكارك وآراءك النقدية في التعليقات أدناه، ولا تتردد في **استكشاف المزيد من مقالاتنا الفلسفية** لتعميق فهمك لقضايا الوجود والمعرفة.

🎓 إعداد وتقديم: ذ. الرامي عبد الغاني