📁 آخر المقالات

المحور الأول: وجود الغير

وجود الغير


ان الانسان لا يعيش كذات معزولة منغلقة على ذاتها، بل إنه يتفاعل ويتبادل التأثير مع الغير، لكون يعيش داخل أشكال من التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية والثقافية. ومفهوم الغير من المفاهيم الفلسفية الحديثة، ولم يتبلور بوصفه مشكلة فلسفية، إلا في زمن متأخر نسبيا، وبصفة خاصة مع فلسفة هيغل، بعدما كان اهتمام التفكير الفلسفي يتمحور حول الذات. وعادة ما يستعمل مفهوم الغير للإشارة إلى ذلك الآخر من الناس المتميز عن الأنا (فردية كانت أو جماعية)، وتتأسس أسباب الشعور بهذا التمايز بعوامل مختلفة (الجنس، السن، العرق، الثقافة، التراتبيات الاجتماعية ...).

اشكالات المحور

هل وجود الغير ضروري...؟ وهل له دور في إثبات وجود الأنا...؟

رنيه ديكارت

ان الكوجيطو الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود" استبعد مفهوم الغير، "فالأنا أو الذات الفردية أو الذات المفكرة" قادرة على التعرف على نفسها بشكل مباشر وبدون تدخل الآخرين، وذلك لكونها ذات مفكرة، حرة، واعية وفعّالة. فقد وضعها ديكارت في مقابل الأخر (العالم والإنسان) القابل للشك بل المشكوك في وجوده أصلا. ومن ثمة فالحقيقة اليقينية الوحيدة التي لا تقبل الشك وتفرض نفسها بشكل بديهي هي "الأنا أفكر" أما وجود الغير فمشكوك فيه. لذا يمكنني إدراك الأشياء اعتمادا على تفكيري ولست بحاجة إلى أي شخص آخر، وأثبت وجودي في غياب الآخرين، وإذا كانوا حاضرين، فوجودهم افتراضي فقط. يقول ديكارت: "...أنظر من النافذة فأشاهد بالمصادفة رجالا يسيرون في الشارع مع أني لا أرى من النافذة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاء للآلات صناعية... لكني أحكم بأنهم أناس".



جون بول سارتر

وجود "الغير" ضروري بالنسبة "للأنا"، فالغير سلسلة من المشاعر والأفكار والإرادات المستقلة عني، وهذا لا يعني انه يعاملني كذات مستقلة عنه، فمن جهة هو شرط لإدراك ذاتي ووجودي، ومن جهة ثانية فهو يهدد كياني ويسلبني حريتي وعفويتي، فالعلاقة التي تربطني بالغير هي علاقة صراع ونفي، حيث كل طرف يريد ممارسة حريته وإرادته. ويقدم سارت في هذا الإطار تجربة "الخجل" فالإنسان حينما يكون بمفرده يتصرف بعفوية وتلقائية وحرية دون قيد أو شرط، وما ان ينتبه ان أحد يراقبه، تتجمد أفعاله وحركاته وتفقد عفويتها وتلقائيتها. و"النظرة" "كبنية أساسية" هي التي تحكم علاقة الأنا بالأغيار. غير أن المسألة هنا متبادلة بين الأنا والغير "ينظر إلي فيشلني، وأنظر إليه فأشله". وعليه، إن وجود "الغير" ضروري "للأنا" وهو بمثابة الوسيط الحتمي بينها وبين ذاتها.

فريدريك هيغل

يؤكد على ضرورة وجود الغير في تشكيل الوعي بالذات، وذلك لأن الإنسان لا يكتمل وعيه بذاته إلا عبر الاعتراف به من طرف الغير. فكل ذات ترغب في الاعتراف بها من طرف الآخرين، ولا قيمة لوعي ذاتي منعزل لا يحظى بالرضا أو القبول من طرف الغير. وما دامت غاية الحصول على الاعتراف تميز الأنا والغير معا، فإن نتيجة ذلك هي دخول الطرفين (أو الوعيين) في صراع لا ينتهي إلا باستسلام أحدهما. لتنشأ بينهما علاقة السيد بالعبد أو التابع. وبذلك يقر "هيجل" بأن الوعي بالذات لا يتحقق بشكل معزول عن الغير، بل يتوقف على اعتراف يكون ثمنه صراع يفضي إلى السيادة والتبعية بين الذوات.

خلاصة المحور

إذا كانت الفلسفة الديكارتية تؤكد على أن الشيء الذي نكون متيقنين من وجوده هو "الأنا" أما وجود "الغير" أو الأنا الأخر فوجوده افتراضي محتمل قابل للشك، فإن سارتر وهيغل يريان أن وجود "الغير" ضروري لوجود "الأنا" ومكون له، وليس مجرد وجود افتراضي استدلالي، يقول سارتر في هذا الصدد "لكي أتوصل إلى حقيقة كيفما كانت حول ذاتي لابد لي أن أمر عبر الغير". لكن السؤال الذي يبقى مطروح: إذا كان "الغير" موجودا "كأنا أخر" فهل معرفته ممكنة أم مستحيلة...؟

تعليقات