recent
أخبار ساخنة

المحور الثاني: معايير الحقيقة

معايير الحقيقة

المعيار في اللغة هو المكيال، والمكيال هو وحدة أو مرجع القياس، نقول "عاير الميزان" إذا تم قياسه واختباره من قبل شخص آخر لمعرفة صحته، ولكننا نستخدمه في هذا المحور بمعنى الشرط أو العلامة المميزة، ونتساءل عما هو معيار الحقيقة كإشارة تجعل من الممكن التعرف على الحقيقة. أو الشرط الموجود في فكرة ما ويميزها ويجعل منها حقيقية. ومنه فإدراك الحقيقة لا يستند إلى معيار واحد، بل إلى معايير متعددة ومختلفة باختلاف المذاهب الفلسفية والتيارات المعرفية.

إشكال المحور

ما هي معايير صدق الحقيقة...؟ وهل تستمد معيارها من خلال التجربة أو من خلال منهج علمي ...؟

موقف رونيه ديكارت

اعتمد على أسلوب التمثيل من أجل توضيح فكرته عن المنهج الموصل إلى الحقائق، وشبه نفسه برجل يسير في الظلام، لذلك ولكي لا يسقط كان لزاما عليه اتخاذ الحيطة والحذر، المتمثل في الشك، وليس من أجل الشك فقط، ولكن كوسيلة لتحرير العقل من الأوهام، والأحكام التي علقت به دون أن يتناولها بالفحص والنقد يقول ديكارت "بمجرد أن أمضيتي في حياتي، قررت أن أحرر نفسي بجدية من كل الآراء التي كنت آمنوا بها من قبل وأن أبدأ الأشياء من جديد" كتاب "التأملات". هكذا فالشك عند ديكارت هو السبيل الموصل إلى الحقيقة، ولابد للعقل كي يفكر بطريقة سليمة أن يعتمد على قواعد تجنبه الوقوع في الخطأ. والتي اختصرها في قواعد أربعة أساسية (البداهة، التقسيم، التركيب، المراجعة)، ولمزيد من التفصيل يمكن مراجعة.

موقف جون لوك

لا يرى الحقيقة في العقل ومبادئه، بل في التجربة الحسية ومعطياتها. التجربة هي المصدر الوحيد الذي يضمن للإنسان امتلاك الحقيقة، وبالتالي يرفض معيار الحدس أو البداهة، الذي دافع عنه الفلاسفة العقلانيون. في اعتقاده لا وجود لأفكار أولية وفطرية في العقل البشري كأساس للحقيقة، فالعقل "صفحة بيضاء" والتجارب والحواس هي من تكتب على هذه الصفحة البيضاء المعرفة والأفكار. أي أن العقل ليس لديه مبادئ قبلية، بحجة أنه إذا كان صحيحًا أن هناك مبادئ من هذا النوع، لكانت معرفة الناس متساوية في جميع الحالات، والحقيقة تشهد على عكس هذا الادعاء. تنبع الحقيقة بشكل أساسي من التجربة، وذلك من خلال تحويل الانطباعات الحسية إلى أفكار بسيطة، ثم توليفه للإنتاج أفكار جديدة. وهكذا، فإن جميع أفكارنا من أصل حسي، والحواس هي ما يعطي أفكارنا الحقيقة والصدق. ومن ثمة، فإن التجربة هي المعيار الأساسي والوحيد للحقيقة.

موقف إمانويل كانط

تعرف الحقيقة "الصدق" من حيث الاسم، بأنها مطابقة المعرفة بموضوعها. إننا نسلم هنا بهذا التعرف الاسمي ونفترضه، غير أننا نريد أن نعرف ما هو المعيار الكوني أو الكلي والشمولي لاتصاف معرفة ما بالحقيقة. يقول كانط "ان الحقيقة لا توجد في الواقع ولا في الفكر على نحوٍ جاهز وانما تبنى وتشيد". يبنيها ويشيدها الفكر انطلاقا من معطيات التجربة الحسية التي هي مادة خام تضفي عليها الذات العارفة شكلاً أو صورةً. ونتيجة ذلك فان الحقيقة لا تعود هي مطابقة الفكر للواقع بل هي انتظام الواقع وفقاً لبنية الفكر ونظامه القبلي المتعالي. ومع ذلك فان الحقيقة تستلزم مادةً وصورة، تجربة وفكر.

خلاصة المحور

في نهاية المحور نجد أن ديكارت يميل إلى العقل ويجعل منه مصدر الحقيقة، بينما يميل جون لوك إلى التجربة ويجعلها مصدرًا للحقيقة. وخلافاً لما سبق، قدم كانط تصوراً نقدياً للحقيقة، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأخيرة (الحقيقة) لا يوجد في العقل بشكل غريزي، كما يقول ديكارت، ولا يتم إعطاؤه للواقع الحسي، كما يدعي لوك، ولكن تبنى وتشي. وبالتالي فالحقيقة تظل مشروطة بما تعطيه الخبرة والتجربة للعقل، وما يقدمه العقل لبيانات ومعطيات التجربة.


google-playkhamsatmostaqltradent