معرفة الغير
إن طرح مسألة معرفة
الغير يقتضي منا محاولة تحديد المعنى المقصود بالمعرفة أولا، وبعدها طرح
الإشكالية التي يثيرها معرفة الغير، ومختلف المواقف منها. ويقصد بالمعرفة ذلك النشاط
الذي تقوم به الذات من أجل تعقل وفهم موضوع ما،
وبذلك تتأسس المعرفة على عنصرين أساسيين: أولهما الذات: تقوم بعملية التفكير والفهم، وتتميز بالحرية والإرادة والوعي. وثانيهما الموضوع: وهو الشيء الذي تتجه إليه الذات
العارفة، وهو عاطل، لأنه فاقد لكل الصفات والخصائص المميزة للذات.
إشكالية المحور
هل يمكن معرفة الغير...؟ وإذا كانت معرفته
ممكنة، فكيف يمكن تحقيقها ...؟
غاستون بيرجي: معرفة الغير غير ممكنة
وذلك راجع بالأساس إلى طبيعة الذات البشرية،
القائمة على حياة "العزلة والانغلاق"، التي يعيشها كل
من الأنا والغير، فلكل منهما عالمه الداخلي الخاص، عالم
مغلق ومسيج، يستحيل اختراقه وولوج مجاله الداخلي. وهذا لا يعني أننا لا
نستطيع مشاركة الآخرين إحساساتهم، ولكن مهما بلغت درجة التعاطف والميل والمشاركة في
الإحساس بالألم والعذاب أو بالفرح والسعادة، فإن ذلك لن يقود إلى إحساس متماثل أو
متطابق بشكل كلي ومطلق، لأن الأمر يتعلق بتجربة محض ذاتية يستحيل النفاذ إليها
واختراق أعماقها. إن إرادة التواصل بين الأنا والغير حاضرة وستبقى كذلك دائما
وأبدا، إلا أنها ستبقى دائما وأبدا إرادة مستحيلة التحقق مادام الإنسان كائنا
سجينا في آلامه، ومنعزلا في لذّاته، محكوما عليه بأن لا يشبع أبدا رغبته في
التواصل.
ماكس شلر: معرفة الغير ممكنة
معرفة الغير ممكنة وغير مستحيلة في نظره، وذلك
من خلال مظاهره الفسيولوجية (الخارجية)، حتى لو أخفى عن عمد مشاعره أو حاول أن يبدو
مخالفا لما هو عليه. من هنا يقول "شيلر": "إننا ندرك فرح الغير من ابتسامته، كما ندرك همومه وألمه من دموعه، وخجله من
احمرار وجهه، وحبه من نظرته الحنونة...". فمعرفة الغير لا تتم إلا من خلال
"الإدراك الكلي"، الذي يجمع بين المعطى الجسدي الخارجي (الابتسامة/البكاء)
وبين ما يشير إليه من أحاسيس ومشاعر باطنية نفسية (الفرح/الألم). خصوصا وأن "الأنا" و"الغير" تجمعهما تجربة
إنسانية مشتركة تؤدي إلى توحيد المعاني والقيم التي يضفيانها على الأشياء. هكذا
فمعرفة الغير لا تتم من خلال تقسيمه إلى ثنائيات (ظاهر/باطن– جسد/روح–
سلوك/مشاعر"، إن معرفة بهذا الشكل غير ممكنة لأن الغير كلا لا يقبل القسمة،
ومعرفته لا تتم إلا بوصفه كذلك.
نيكولا مالبرانش: معرفة الغير تخمينية افتراضية
ينطلق هذا الفيلسوف من القاعدة العقلانية
الكلاسيكية القائلة بأن المعرفة ينبغي أن تكون واضحة ومتميزة كما هو الشأن بالنسبة
"للرياضيات مثلا". ويؤكد أنه إذا أردنا أن نبني معرفة عن الغير فإننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة يقينية بكل ما يحسه الغير أو يشعر به، فنحن نكتفي فقط بالحكم عليه، اعتمادا على إحساسات قد كوناها عن أنفسنا، وهذا
يعني أن أحكامنا في حق الغير قد تحمل الخطأ وقد تحتمل الصواب. لكون الأنا لا
يستطيع أن ينفذ إلى أعماق الغير لإدراك حقيقة مشاعره وعواطفه وأحاسيسه، فهو فقط
يقوم بعملية "إسقاط" أي يسقط عليه ما
يحس به ويشعر به انطلاقا من "مبدأ المماثلة". ومن ثمة لا يمكن اعتبارها
معرفة يقينية وحاسمة، بل أقصى ما يمكن الوصول إليه من خلالها (أي
المماثلة)، هو معرفة تخمينية وافتراضية وقابلة للشك.
خلاصة المحور
بناء على ما سبق، يمكن التأكيد على أن معرفة
الغير تحمل في طياتها مفارقات وإحراجا مختلفة ومتنوعة، فمعرفة الغير من جهة
مستحيلة نظرا لكون الإنسان كائنا سجينا في آلامه، ومنعزلا في لذّاته ويصعب النفاذ
إلى أعماقه "غاستون بيرجي" ومن جهة ثانية هو
أن المعارف التي نكونها عن الآخرين تكون معرضة للخطأ والتخمين والشك. "نيكولاس مالبرانش". ومن جهة ثالثة فمعرفة الغير لا تتم
إلا من خلال الإدراك الكلي، الذي يجمع بين المعطى الجسدي والمعطى النفسي "ماكس شيلر".